فصل: تفسير الآيات (41- 44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (41- 44):

{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)}
قوله: {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} التنكير التغيير، يقول: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته. قيل: جعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وقيل: غير بزيادة ونقصان. قال الفراء، وغيره: إنما أمر بتنكيره؛ لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئاً، فأراد أن يمتحنها، وقيل: خافت الجنّ أن يتزوّج بها سليمان، فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان أبداً، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار، وقوله: {نَنظُرْ} بالجزم على أنه جواب الأمر، وبالجزم قرأ الجمهور، وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف {أَتَهْتَدِى} إلى معرفته، أو إلى الإيمان بالله {أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} إلى ذلك.
{فَلَمَّا جَاءتْ} أي: بلقيس إلى سليمان {قِيلَ} لها، والقائل هو سليمان، أو غيره بأمره: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} لم يقل: هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقيناً لها فلا يتمّ الاختبار لعقلها {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} قال مجاهد: جعلت تعرف، وتنكر، وتعجب من حضوره عند سليمان، فقالت: كأنه هو.
وقال مقاتل: عرفته، ولكنه شبهت عليهم كما شبّهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت: نعم.
وقال عكرمة: كانت حكيمة، قالت: إن قلت: هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: كأنه هو، وقيل: أراد سليمان أن يظهر لها أن الجنّ مسخرون له {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} قيل: هو من كلام بلقيس، أي أوتينا العلم بصحة نبوّة سليمان من قبل هذه الآية في العرش {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} منقادين لأمره. وقيل: هو من قول سليمان أي أوتينا العلم بقدرة الله من قبل بلقيس، وقيل: أوتينا العلم بإسلامها، ومجيئها طائعة من قبلها أي من قبل مجيئها. وقيل: هو من كلام قوم سليمان. والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال.
{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} هذا من كلام الله سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادّعته من الإسلام، ففاعل صدّ هو ما كانت تعبد أي منعها من إظهار الإيمان ما كانت تعبده، وهي الشمس، قال النحاس: أي صدّها عبادتها من دون الله، وقيل: فاعل صدّ هو الله أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون {ما} في محل نصب، وقيل: الفاعل سليمان أي ومنعها سليمان ما كانت تعبد، والأوّل أولى، والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا، وجملة {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} تعليل للجملة الأولى أي سبب تأخرها عن عبادة الله، ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين بالكفر. قرأ الجمهور: {إنها} بالكسر. وقرأ أبو حيان بالفتح. وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما: أن الجملة بدل مما كانت تعبد.
والثاني أن التقدير: لأنها كانت تعبد، فسقط حرف التعليل.
{قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح}. قال أبو عبيدة: الصرح: القصر.
وقال الزجاج: الصرح: الصحن. يقال: هذه صرحة الدار وقاعتها. قال ابن قتيبة: الصرح: بلاط اتخذ لها من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك.
وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرح كل بناء عالٍ مرتفع، وأن الممرّد: الطويل {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه لجة، واللجة: معظم الماء، فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك {قَالَ} سليمان: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مّن قَوارِيرَ} الممرّد: المحكوك المملس، ومنه الأمرد، وتمرّد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قاله الفراء. ومنه الشجرة المرداء: التي لا ورق لها. والممرّد أيضاً: المطوّل، ومنه قيل: للحصن ما رد، ومنه قول الشاعر:
غدوت صباحاً باكراً فوجدتهم ** قبيل الضحى في السابري الممرّد

أي الدروع الواسعة الطويلة، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت، واستسلمت، و{قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِى} أي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وقيل: بالظنّ الذي توهمته في سليمان؛ لأنها توهمت أنه أراد تغريقها في اللجة، والأوّل أولى {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان} متابعة له داخلة في دينه {للَّهِ رَبّ العالمين} التفتت من الخطاب إلى الغيبة، قيل: لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء، ولكونه علماً للذات.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} قال: زيد فيه ونقص {نَنظُرْ أَتَهْتَدِي} قال: لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا} قال: من قول سليمان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد نحوه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً} قال: بحراً.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل؛ أن سليمان تزوّجها بعد ذلك. قال أبو بكر بن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث. قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة: بل هو منكر جداً، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرّف وبدّل ونسخ. انتهى. وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير، ونبهنا عليه في عدّة مواضع، وكنت أظنّ أنه لم ينبّه على ذلك غيري. فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف.
وأخرج البخاري في تاريخه، والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوّل من صنعت له الحمامات سليمان» وروي عنه مرفوعاً من طريق أخرى رواها الطبراني، وابن عديّ في الكامل، والبيهقي في الشعب بلفظ: «أوّل من دخل الحمام سليمان فلما وجد حرّه قال: أوّه من عذاب الله».

.تفسير الآيات (45- 53):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)}
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} معطوف على قوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودُ} واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} و{صالحا} عطف بيان، و{أَنِ اعبدوا الله} تفسير للرسالة، وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا الله، و{إذا} في {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} هي الفجائية أي ففاجئوا التفرق، والاختصام، والمراد ب {الفريقان}: المؤمنون منهم والكافرون. ومعنى الاختصام: أن كلّ فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحقّ معه، وقيل: إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل: أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف.
{قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} أي قال صالح للفريق الكافر منهم منكراً عليهم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة. والمعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدّمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} رجاء أن ترحموا أو كي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازاً، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً، فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح، والكلام اللين أنهم {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير: التشاؤم أي تشاءمنا منك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفراً أو أمراً من الأمور نفروا طائراً من وكره فإن طار يمنة ساروا، وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك قَال لهم صالح: {طَائِرُكُمْ عِندَ الله} أي ليس ذلك بسبب الطير الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، وهو ما يقدّره عليكم، والمعنى: أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى: {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} [الأعراف: 131]. ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تمتحنون، وتختبرون وقيل: تعذبون بذنوبكم، وقيل: يفتنكم غيركم، وقيل: يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة، أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه.
{وَكَانَ فِي المدينة} التي فيها صالح، وهو الحجر {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط: اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كلّ واحد منهم جماعة، والجمع أرهط وأراهط، وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله: {يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء هؤلاء التسعة اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره.
{قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله} أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله، هذا على أن {تقاسموا} فعل أمر، ويجوز أن يكون فعلاً ماضياً مفسراً لقالوا، كأنه قيل: ما قالوا؟ فقال: تقاسموا، أو يكون حالاً على إضمار قد أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود: {يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا بالله} وليس فيها قالوا، واللام في {لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} جواب القسم أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ} قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في {لنبيتنه}، وفي {لنقولن}، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ حمزة والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعضهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية فيهما، والمراد بوليّ صالح: رهطه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنا قتلهم، ولا ندري من قتله، وقتل أهله، ونفيهم لشهودهم لمكان الهلاك يدلّ على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل: إن المهلك بمعنى الإهلاك، وقرأ حفص والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر، والمفضل بفتح الميم، وكسرها {وِإِنَّا لصادقون} فيما قلناه. قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحاً وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك، ولا رأوه، وكان هذا مكراً منهم، ولهذا قال الله سبحانه: {وَمَكَرُواْ مَكْراً} أي بهذه المحالفة {وَمَكَرْنَا مَكْراً} جازيناهم بفعلهم فأهلكناهم {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بمكر الله بهم.
{فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة مَكْرِهِمْ} أي انظر ما انتهى إليه أمرهم الذي بنوه على المكر، وما أصابهم بسببه {أَنَّا دمرناهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} قرأ الجمهور بكسر همزة أنا، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافاً. قال الفراء، والزجاج: من كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله. كأنه جعله تابعاً للعاقبة، كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم، وعلى قراءة الفتح يكون التقدير: بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلاً من عاقبة، أو يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أنا دمرناهم، ويجوز أن تكون كان ناقصة، وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها أنا دمرنا. قال أبو حاتم: وفي حرف أبيّ: {أن دمرناهم}. والمعنى في الآية: أن الله دمّر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين: أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم.
وجملة: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} مقرّرة لما قبلها. قرأ الجمهور: {خاوية} بالنصب على الحال. قال الزجاج: المعنى: فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء، والنحاس: أي خالية عن أهلها خراباً ليس بها ساكن.
وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصب خاوية على القطع. والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع منها الألف، واللام نصبت كقوله: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} [النحل: 52]. وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن عمر برفع {خاوية} على أنه خبر اسم الإشارة، وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة، وخاوية خبر آخر، والباء في: {بِمَا ظَلَمُواْ} للسببية أي بسبب ظلمهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ} التدمير، والإهلاك {لآيَةً} عظيمة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يتصفون بالعلم بالأشياء. {وَأَنجَيْنَا الذين ءَامَنُواْ} وهم صالح ومن آمن به {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} الله ويخافون عذابه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {طَائِرُكُمْ} قال: مصائبكم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ} قال: هم الذين عقروا الناقة، وقالوا حين عقروها: نبيت صالحاً وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً، وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين.

.تفسير الآيات (54- 66):

{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)}
انتصاب {لوطاً} بفعل مضمر معطوف على أرسلنا، أي وأرسلنا لوطاً، و{إِذْ قَالَ} ظرف للفعل المقدر، ويجوز أن يقدر: اذكر؛ والمعنى: وأرسلنا لوطاً وقت قوله لقومه {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلة المتناهية في القبح والشناعة، وهم أهل سدوم، وجملة {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار أي وأنتم تعلمون أنها فاحشة. وذلك أعظم لذنوبكم، على أن {تبصرون} من بصر القلب، وهو العلم، أو بمعنى النظر، لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتوًّا وتمرّداً، وقد تقدّم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى. {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة، وانتصاب {شهوة} على العلة أي للشهوة، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: إتياناً شهوة، أو أنه بمعنى الحال، أي مشتهين لهم {مّن دُونِ النساء} أي متجاوزين النساء اللاتي هنّ محل لذلك {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} التحريم، أو العقوبة على هذه المعصية، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أئنكم.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قرأ الجمهور بنصب {جواب} على أنه خبر كان، واسمها {إلاّ أن قالوا}: أي إلاّ قولهم. وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان، وخبرها ما بعده، ثم علّلوا ما أمروا به بعضهم بعضاً من الإخراج بقولهم: إنهم أناس يتطهرون أي يتنزهون عن أدبار الرجال! قالوا ذلك استهزاء منهم بهم. {فأنجيناه وَأَهْلَهُ} من العذاب {إِلاَّ امرأته قدرناها مِنَ الغابرين} أي قدّرنا أنها من الباقين في العذاب، ومعنى {قدرنا}: قضينا، قرأ الجمهور قدّرنا بالتشديد، وقرأ عاصم بالتخفيف. والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} هذا التأكيد يدل على شدّة المطر، وأنه غير معهود {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} المخصوص بالذم محذوف أي ساء مطر المنذرين مطرهم، والمراد بالمنذرين: الذين أنذروا، فلم يقبلوا، وقد مضى بيان هذا كله في الأعراف والشعراء.
{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ} قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط: قل: الحمد لله على هلاكهم، وخالفه جماعة فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، أي قيل: الحمد لله على هلاك كفار الأمم الخالية، وسلام على عباده {الذين اصطفى} قال النحاس: وهذا أولى؛ لأن القرآن منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكلّ ما فيه فهو مخاطب به إلاّ ما لم يصحّ معناه إلا لغيره. قيل: والمراد بعباده الذين اصطفى: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى حمله على العموم، فيدخل في ذلك الأنبياء وأتباعهم {ءَآللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أي آلله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام؟ وهذه الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء

فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلاً.
وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة، ولا خير في الشقاوة أصلاً. وقيل: المعنى: أثواب الله خير، أم عقاب ما تشركون به؟ وقيل: قال لهم ذلك جرياً على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيراً. وقيل: المراد من هذا الاستفهام: الخبر. قرأ الجمهور: {تشركون} بالفوقية على الخطاب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب: {يشركون} بالتحتية، و{أم} في {أَمَّا يُشْرِكُونَ} هي المتصلة، وأما في قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض} فهي المنقطعة.
وقال أبو حاتم: تقديره ءآلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض وقدر على خلقهنّ؟ وقيل: المعنى: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟ فتكون {أم} على هذا متصلة، وفيها معنى التوبيخ، والتهكم كما في الجملة الأولى. وقرأ الأعمش: {أمن} بتخفيف الميم {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء} أي نوعاً من الماء، وهو المطر {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} جمع حديقة. قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط، فهو البستان، وليس بحديقة.
وقال قتادة، وعكرمة: الحدائق: النخل {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذات حسن، ورونق. والبهجة: هي الحسن الذي يبتهج به من رآه، ولم يقل: ذوات بهجة على الجمع؛ لأن المعنى: جماعة حدائق {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي ما صح لكم أن تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي: الحظر، والمنع من فعل هذا أي ما كان للبشر، ولا يتهيأ لهم ذلك، ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود. ثم قال سبحانه موبخاً لهم، ومقرّعاً {أإله مَعَ الله} أي هل معبود مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكاً له في العبادة، وقرئ: {ءإلها مع الله} بالنصب على تقدير: أتدعون إلها. ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدّم، وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} أي يعدلون بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل.
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها، فقال: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} القرار: المستقرّ أي دحاها، وسوّاها بحيث يمكن الإستقرار عليها. وقيل: هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السموات والأرض}، ولا ملجئ لذلك، بل هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشيء آخر {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً} الخلال: الوسط.
وقد تقدّم تحقيقه في قوله: {وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً} [الكهف: 33] {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} أي جبالاً ثوابت تمسكها، وتمنعها من الحركة {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} الحاجز: المانع، أي جعل بين البحرين من قدرته حاجزاً. والبحران هما: العذب والمالح، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مرّ بيانه في سورة الفرقان {أإله مَعَ الله} أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله فهل إله في الوجود يصنع صنعه، ويخلق خلقه؟ فكيف يشركون به ما لا يضرّ ولا ينفع {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} توحيد ربهم، وسلطان قدرته.
{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم، والمضطر اسم مفعول من الاضطرار وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: هو المذنب، وقيل: هو الذي عراه ضرّ من فقر أو مرض، فألجأه إلى التضرّع إلى الله. واللام في {المضطر} لجنس لا للاستغراق، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلاّ فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطرّ إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطرّ أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [يونس: 22]، وقال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] فأجابهم عند ضرورتهم، وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم {وَيَكْشِفُ السوء} أي الذي يسوء العبد من غير تعيين، وقيل: هو الضرّ، وقيل: هو الجور {وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الأرض} أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم، والمعنى: يهلك قرناً وينشئ آخرين، وقيل: يجعل أولادكم خلفاً منكم، وقيل: يجعل المسلمين خلفاً من الكفار ينزلون أرضهم، وديارهم {أإله مَعَ الله} الذي يوليكم هذه النعم الجسام {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرا قليلاً ما تذكرون. قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب. وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر ردًّا على قوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} واختار هذه القراءة أبو حاتم.
{أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظلمات البر والبحر} أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البرّ أو البحر.
وقيل: المراد: مفاوز البرّ التي لا أعلام لها، ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} والمراد بالرحمة هنا المطر أي: يرسل الرياح بين يدي المطر، وقبل نزوله {أإله مَعَ الله} يفعل ذلك، ويوجده {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه، وتقدّس عن وجود ما يجعلونه شريكاً له {أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} كانوا يقرّون بأن لله سبحانه هو الخالق، فألزمهم الإعادة أي إذا قدر على الإبتداء قدر على الإعادة {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} بالمطر والنبات أي هو خير أم ما تجعلونه شريكاً له مما لا يقدر على شيء من ذلك {أإله مَعَ الله} حتى تجعلونه شريكاً له {قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين} أي حجتكم على أن الله سبحانه شريكاً، أو هاتوا حجتكم أن ثمّ صانعاً يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم، وتهكم بهم {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والاستثناء في قوله إِلاَّ الله منقطع، أي لكن الله يعلم ذلك، ورفع ما بعد إلاّ مع كون الاستثناء منقطعاً هو على اللغة التميمية كما في قولهم:
إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

وقيل: إن فاعل {يعلم} هو ما بعد إلاّ، و{من في السماوات} مفعوله، و{الغيب} بدل من {من} أي لا يعلم غيب من في السموات والأرض إلاّ الله، وقيل: هو استثناء متصل من {من}.
وقال الزجاج: {إلاّ الله} بدل من {من}. قال الفراء: وإنما رفع ما بعد إلاّ لأن ما بعدها خبر كقولهم: ما ذهب أحد إلاّ أبوك، وهو كقول الزجاج. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي، وإن.
وقد تقدّم تحقيقه، والضمير للكفرة. وقرأ السلمي: {إيان} بكسر الهمزة، وهي لغة بني سليم، وهي منصوبة ب {يبعثون}، ومعلقة ل {يشعرون}، فتكون هي وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض، أي وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أَيَّانَ معنى متى.
{بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة}. قرأ الجمهور: {ادّارك}. وأصل ادارّك: تدارك، أدغمت التاء في الدال، وجيء بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمر وحميد: {بل أدرك} من الإدراك. وقرأ عطاء بن يسار وسليمان بن يسار والأعمش: {بل ادّرك} بفتح لام بل، وتشديد الدال. وقرأ ابن محيصن: {بل أدرك} على الاستفهام.
وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج: {بلى أدّارك} بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع وتشديد الدال. وقرأ أبيّ {بل تدارك}، ومعنى الآية: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به، وعاينوه. وقيل: معناه: تتابع علمهم في الآخرة، والقراءة الثانية معناها: كمل علمهم في الآخرة مع المعاينة، وذلك حين لا ينفعهم العلم؛ لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين.
وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار، واستدلّ على ذلك بقوله فيما بعد: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل: المعنى: بل ضلّ، وغاب علمهم في الآخرة فليس لهم فيها علم، ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى، فافتعل، وتفاعل قد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي بمعنى الإنكار. قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها. {بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا} أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم أضرب عن ذلك إلى ما هو أشدّ منه، فقال: {بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ} فلا يدركون شيئاً من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم: وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون إلى شيء مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال: إن معنى الآية الأولى أعني {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} أنه كمل علمهم، وتمّ مع المعاينة فلابد من حمل قوله: {بْل هُمْ فَي شَكّ} إلخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن معنى الآية الأولى: الاستهزاء بهم، والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله: {بْل هُمْ فَي شَكّ} إلخ بما كانوا عليه في الدنيا. وبهذا يتضح معنى هذه الآيات، ويظهر ظهوراً بينا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى}. قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه، وروي مثله عن سفيان الثوري. والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني، عن رجل من بلهجيم قال: قلت: يا رسول الله إلى ما تدعو؟ قال: «أدعو الله وحده الذي إن مسك ضرّ فدعوته كشفه عنك»، هذا طرف من حديث طويل.
وقد رواه أحمد من وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال: حدّثنا عفان، حدّثنا حماد بن سلمة، حدّثنا يونس، حدّثنا عبيد بن عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي.
ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية وقالت في آخره: ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة} قال: حين لا ينفع العلم.
وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ: {بل أدرك علمهم في الآخرة} قال: لم يدرك علمهم. قال أبو عبيد: يعني: أنه قرأها بالاستفهام.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ في الآخرة} يقول: غاب علمهم.